كتبت لبنى مسروه في مقال رأي نشره موقع ميدل إيست آي أنّ النجاة من المحرقة لا تقوم على قرار واحد، بل على سلسلة قرارات يومية يتوقف عليها البقاء. السؤال الدائم أمام الفلسطينيين في غزة هو: هل يبقون أم يرحلون؟

يواجه أكثر من مليون فلسطيني حالياً حصاراً خانقاً وسط زحف إسرائيلي نحو مدينة غزة، ويجدون أنفسهم مضطرين إلى إعادة اتخاذ القرار ذاته كل يوم: البقاء تحت النار أو الفرار إلى المجهول.

في أحد أيام الأحد الأخيرة، سار مراسل ميدل إيست آي محمد الحجار أربع ساعات تحت الشمس مع زوجته إيناس وطفليهما.
في مقطع مصوَّر أرسله من شارع الرشيد، ظهر قلب غزة الذي كان نابضاً بالحياة وقد تحول إلى طريق ترابي يخترق أرضاً قاحلة.
انتشرت منشورات إسرائيلية بالعربية تحدد مسار الإجلاء القسري، فيما بدا الطفلان يحملان حقيبة مدرسية وملابس سوداء كأنهما يسيران نحو مصير مجهول.

على مدى عامين، حاول محمد إنقاذ أسرته وسط الخراب المتصاعد، لكن كل محاولة قوبلت بكارثة جديدة.
ترك البيت والذكريات وراءه، واضطر للنوم في الشارع ثم المسير جنوباً بما استطاع حمله.

قبل عام، قرر مع إيناس مغادرة غزة إلى مصر لضمان تعليم لأطفاله بعد أن دمرت إسرائيل المدارس.
لكن عند ممر نتساريم، اعتقل الجنود إيناس وصادروا جوازات السفر والمدخرات وحتى ذهب العائلة. بعد يومين أفرجوا عنها وأعادوها إلى الشمال، بينما واصل الزوج والأطفال طريقهم ليجدوا معبر رفح مغلقاً نهائياً.

سمح وقف إطلاق نار قصير في يناير للعائلة بالالتقاء مجدداً بعد 75 يوماً من الانفصال.
لكن الأحد الماضي أجبرتهم الغارات على الخروج مرة أخرى.

يروي محمد عبر واتساب: "سقطت علينا ليلاً ثلاث طائرات مسيّرة متفجرة وعشرات القنابل. حلّقت طائرة رباعية فوق بيتنا وبيت الجيران. كانت ليلة من الجحيم. قررنا مغادرة المنزل نهائياً".

واجهت الأسر الفلسطينية خياراً مريراً: البقاء في المدينة تحت نيران القصف أو النزوح إلى مخيمات تحاصرها المجاعة ونيران القناصة.
يصف أحد السكان، عماد سارسوي، إحباطه قائلاً: "كنت أفضّل الموت مع عائلتي في البيت على النزوح. لكن الخطر الآن يتجاوز الموت. قصفوا ألواح الطاقة الشمسية التي كانت تعطينا ماء وكهرباء. سنموت عطشاً ببطء".

ركز الجيش الإسرائيلي هجماته على مقومات الحياة: أبراج سكنية، مدارس تؤوي النازحين، وخزانات المياه، وألواح الطاقة، وحتى نقاط الإنترنت والشحن.
الهدف دفع الناس قسراً إلى الخروج. ومع ذلك، لا يجد الفارون جنوباً أماناً؛ فهناك ينتظرهم الجوع وطلقات القنص.

في الجنوب، وصف قناص إسرائيلي من لواء ناحال لصحيفة هآرتس أنه قتل من الأطفال عدداً لم يعد يحصي.
قال: "أطلق يومياً 50 أو 60 رصاصة. لا أعرف كم قتلت، كثير. مهمتي كل صباح أن أؤمّن وصول قوافل المساعدات. عندما يتدافع الفلسطينيون الجائعون نحو الشاحنات، نرسم خطاً وهمياً: من يتجاوزه يُطلق عليه النار".

هذا الواقع جعل كثيرين يفضلون البقاء في بيوتهم مهما كان الثمن. في مجموعات واتساب بغزة، يتردد النقاش بين الموت في البيت أو الموت على الطريق.
أحد السكان كتب: "لن أكرر خطأ العام الماضي عندما نزلت جنوباً. لا يوجد مكان آمن. أفضل أن أموت في منزلي. لم يعد لدي ما أخسره".

بينما أعلن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني أنّ الهجمات الليلية أجبرت سبعين ألف شخص على النزوح، تحدث الجيش الإسرائيلي عن أرقام أكبر بكثير، زاعماً أنّ ثلاثمئة ألف فروا، بينهم عشرون ألفاً في ليلة واحدة.
تكشف هذه الفجوة كيف يُستغل الإحصاء في خدمة الدعاية العسكرية: كلما بدا أن غزة فارغة، ازداد شعور الجنود بحرية قتل من تبقى.

واصل محمد وعائلته السير اثني عشر كيلومتراً تحت حر النهار حتى وصلوا إلى مخيم النصيرات شمال دير البلح.
أجسادهم أنهكت وظهورهم انحنت من ثقل ما حملوه معهم. القصف ظل يتساقط حولهم.

قال محمد: "كان يفترض أن تكون هذه أجمل سنوات حياتي، أرى أولادي يكبرون ويحققون أحلامهم. لكنني أعيش أسوأ الأيام، ولا أعرف إن كنت سأعيش حتى أراهم يكبرون".

https://www.middleeasteye.net/opinion/gaza-families-are-running-death-more-death